لم تعمر كثيراً تلك التهدئة التي تمخضت عنها في شهر أيار/ مايو الماضي، تفاهمات متوجسة بين حكومتي باماكو ونواكشوط إثر مقتل عدة مواطنين موريتانيين في حوادث متفرقة ناجمة عن مطاردات قام الجيش المالي مدعوماً بعناصر فاغنر، لجهاديين مسلحين في عمق الأراضي الموريتانية.
فقد عاد التوتر إلى المناطق الحدودية أمس بعد قيام مسلحي فاغنر الداعمين للجيش المالي من جديد، باعتراض سيارة مدنية موريتانية وقتل سائقها مع طفل كان يرافقه في عملية مطاردة، شكلت أحدث استهداف للموريتانيين في المناطق الشرقية المحاذية للحدود مع مالي.
وأكدت هذه العملية التي أثارت صورها المتداولة قلقاً كبيراً داخل الأوساط السياسية الموريتانية، أن مسلسل مطاردات الجيش المالي وذراعه الروسية فاغنر، لجهاديين مسلحين مفترضين داخل التراب الموريتاني ما يزال مستمراً، وأن المساعي السابقة الهادفة إلى إنهاء التوتر والتي شملت تبادلاً رسمياً للزيارات واللقاءات، والرسائل بين الحكومتين الموريتانية والمالية لم يوقف استهداف فاغنر لسكان المناطق الشرقية الموريتانية، وهو قد يدفع، يوماً ما، لاندلاع حرب، لأن موريتانيا أكدت مراراً أن لصبرها إزاء مقتل مواطنيها، حدوداً.
وأكد الإعلامي محفوظ ولد السالك، الإعلامي المختص في الشؤون الإفريقية، أن “عملية القتل الجديدة تتزامن مع إعلان الجيش المالي استعادة منطقة “إنفارق” قرب الحدود مع الجزائر بعد سنوات من سيطرة المقاتلين الأزواديين عليها”.
وقال: “يؤشر هذا على تكثيف الجيش المالي ومساعديه من “فاغنر”، التحرك على المناطق الحدودية مع موريتانيا والجزائر، وهو انعكاس للمواقف السياسية والدبلوماسية لباماكو؛ فمالي غير راضية عن كون موريتانيا لم تنخرط معها في معاداة فرنسا والغرب عموماً، وبخصوص الجزائر فعلاقاتها معها متوترة منذ بعض الوقت، على خلفية استقبال الإمام ديكو، وقادة الحركات الأزوادية”.
وأكد ولد السالك في تعليق له على هذه الأحداث “أن تركيز الجيش المالي على المناطق الحدودية مع موريتانيا والجزائر، يضعفه كثيراً في الشمال والوسط”، مضيفاً “أن آخر مؤشرات ذلك هو مقتل 25 شخصاً الأحد على أيدي مسلحين في قرية “دمبو” الواقعة وسط مالي”.
وجاءت هذه الأحداث لتعيد للواجهة، حالة التوتر بين موريتانيا ومالي، أياماً قليلة بعد أن حذر الرئيس الموريتاني، محمد ولد الشيخ الغزواني، في خطاب حملته الرئاسية الأخيرة من “انتهاك السيادة الموريتانية من خلال اقتحام تراب الجمهورية”.
كما يأتي التطور الجديد في ظل استمرار الجيش الموريتاني في تهيئة جنوده وتدريبهم واقتناء ما أمكن من الأسلحة المتنوعة، في خطوة اعتبرها مراقبون مهتمون بهذا الشأن “استعداداً لأية مفاجآت”.
وفي هذا السياق، تواصل الأركان العامة للجيوش الموريتانية منذ أيام، شمال العاصمة نواكشوط، تنفيذ رمايات تدريبية بالأسلحة الثقيلة بينها رمايات بالصواريخ المضادة للطائرات على أهداف مسيرة من ضمنها رمايات ليلية، إضافة لرمايات بالصواريخ المضادة للدروع.
هذا وأثارت هذه التطورات الجديدة قلق ساسة موريتانيا ومدونيها، حيث طالب كتاب ومدونون، الحكومة بالكشف عن ملابسات “الاعتداءات المالية على مواطني المناطق الشرقية”.
وأكد الإعلامي الموريتاني محمد المنى في تعليق له على هذه الأحداث “أن الرأي العام الوطني يتابع على وسائل التواصل الاجتماعي، وبكثير مِن الحزن والأسى والقلق، ما يَحدث على حدودنا الشرقية مِن اعتداءات على المواطنين الموريتانيين وإراقةٍ لدمائهم وزهق لأرواحهم البريئة، منتظِراً صدورَ توضيح رسمي للأحداث الجارية هناك على حقيقتِها، واتخاذَ إجراءات حازمة صارمة من شأنها ردع الجار المالي عن الاستمرار في انتهاكاته المتواصلة منذ أعوام للحُرمات الموريتانية، بما فيها الدماء والأرواح والحدود”.
ومنذ بداية السنة الجارية، ظهرت في موريتانيا عدة مؤشرات على الامتعاض المعلن من تعرُّض عشرات المدنيين الموريتانيين في داخل مالي لاعتداءات متكررة من الجيش وقوات فاغنر الحليفة لها؛ وطالبت الجهات الرسمية الموريتانية السكانَ بالابتعاد عن المناطق الحدودية الخطرة، إلا أن الأمور تفاقمت منذ مارس 2024، بعد تردد أخبار متزايدة عن دخول القوات المالية وحلفائها إلى داخل الحدود الموريتانية، واستهدافها مواطنين موريتانيين ما أدى إلى مقتل 43 شخصاً، بحسب إحصائيات تم تداولها ولم تنفها السلطات.
وبعد التحشيد العسكري الذي جرى في أيار/ مايو الماضي، توصل الطرفان، المالي والموريتاني، في اتفاق لم يعلن رسمياً، لآلية عمل مشتركة لتنسيق جهودهما مستقبلاً من أجل الحيلولة دون انتهاك القوات المالية الحدود الموريتانية، مقابل التزام موريتانيا الحياد التام في النزاع المالي الداخلي، والاكتفاء باستقبال اللاجئين المدنيين القادمين إليها من مالي.
والحقيقة أن أسباب الأزمة الحدودية بين موريتانيا ومالي ما زالت وستظل قائمة ومن الصعب احتواؤها، الأمر الذي ينذر بأزمات مقبلة تستدعي المعالجة الحاسمة، ومن عوامل استمرار هذه الحالة طبيعة التحام السكان بالمناطق المتجاورة على طول الحدود الشاسعة بين البلدين، وطبيعة الأوضاع الداخلية المتفجرة في مالي.
عبد الله مولود
نواكشوط ـ «القدس العربي»