(إلى العزيز بلال أغ الشريف: فارس الهوية في زمن اغتراب القيم الفروسية)
عندما يستخدم استعمار ما بعد الحداثة، كلمة «سقوط»، للتعبير، عن تحقيق غلبة في حملته للاستيلاء على موقع مّا، فهو يخطئ في تسويق فلسفته، لأن مبدأ «السقوط»، المستعمل في أدبيّات المعجم الكلاسيكي، لا يصلح لتوضيح القيمة في حجّة العدوان، عندما يتعلّق الأمر بواقع الصحراء، الذي لا يسقط، بمفهوم السقوط، من الحساب في النّزال، ولكنّه، على العكس، يتحرّر!
يتحرر من وزر. يتحرّر، لأن السقوط لا يعود هنا سقوط الطرف، المستهدف بالعدوان، ولكنه ينقلب نصراً للأخير، لسببٍ بسيط، وهو سقوط قيده، سقوط الشَّرَك الذي شدّه إلى معقل: معقل هو في غنىً عنه، لأنه لم يعتنقه في ناموسه كمقام إلّا مصادفةً، وهو فيه ضيف، نزل على منتجع، يتقاطع فيه أهل الصحراء في مواسم الغيوث، لينقشعوا، ما أن يتبخّر الكلأ مع حلول الصيف؛ و«كيدال» أو ما شابه كيدال، التي يتباهى بإسقاطها الحلف الآثم، الملفّق من أقطابٍ دولية متنافرة، حوّلها الإشتراك في الغنيمة حزمةً متظافرة، وكيدال ليست حاضرة أمّة اللثام، حتّى يعني سقوطها ضرباً من سقوطٍ لنظامٍ سياسي، ولكنها مجرد نموذج لهذا المنتجع الزائل، الذي لم تعوّل عليه ملّة الرحيل يوماً، حتّى في حال تطوّر، ليغدو موقعاً يحمل بصمة الواحة، أو الاستراحة، أو ما شابه، فسوء الفهم هنا ناتجٌ عن القطيعة في منطق هذين القطبين المتعاديَين منذ انفرط عقد حلفهما القديم، عندما كان أمّةً واحدة، عابرة للوجود، عبورها لصحراء هذا الوجود، لينقسم إلى شقّين: شقٌّ برّي، وآخر حضري، لينتقل الخلاف بينهما من ساحة الواقع الدنيوي، إلى ساحة المنطق اللغوي، ليسري في المفاهيم؛ لأن ما يتبدّى نعيماً، في نظر الإنسان الحضريّ، يتحوّل جحيماً، من وجهة نظر الإنسان البرّي.
وما يراه القطب الأوّل (الحضري) سقطةً، أو نكسةً، أو خسارةً، يراه الإنسان الصحراوي، تحرّراً، خلاصاً، بشارةً. وهذا بالضبط هو ما يصدق على الوضع في وطنٍ صحراوي، عصيّ، شاسع، واعد، ولكنه يتوعّد، محتجب، بقدر ما هو عاري، لأنه مسكون بنبوءة دهرية تقول: «الصحراء تتمدّد وتتّسع، تتّسع لتستدرج، فالويل، كل الويل، لمن سوّلت له نفسه يوماً، أن يستولي على الصحراء!».
هذا الوعيد اللامحدود، الذي تلوّح به عرّابة التكوين (الصحراء) إيماءً، هو ما لم يعترف به عالم العمران، المترجم اليوم في حرف الغرب المكابر، لأنه لم يكلّف نفسه عناء الاحتكام إلى ساحة خزنة الزمن، المدعوّة في رطانتنا، تاريخاً، ليعلم حقيقة حاسمة، تغنّى بها عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ (هيرودوت)، عندما تحدّث عن صحراء السّكتيّين، قائلاً أنها الأرض التي لم يحدث أن نزلها مريد هيمنة، ثم استطاع أن يخرج منها سالماً.
وهو ما ينسحب على الصحراء الكبرى أيضاً، التي حاول مستكشفو الشطآن الشمالية أن يفتضّوا بكارتها منذ ما قبل التاريخ، فقطعت دابر حملاتهم الشرهة جميعاً.
حدث ذلك للإغريق، والرومان، ثم في عهد الحملات الاستيطانية الأوروبية، في صحاري المشرق، فكانت الحملات الصليبية أبشع نموذج لعدوان عالم الغرب، المجبول بروح قابيل، المفلسف لأفضال الاستقرار، ضدّ الفريق الآمن، المسالم، المجبول بروح الشهيد هابيل، الذي ارتضى الهجرة في أرض الله ديناً، فانتصر، لأن الصحراء، المسكونة بروح الألوهة، انتقمت له.
أمّا حملة الجنرال الفرنسي فلاترز، (فلاتييه)، على الصحراء الكبرى، في منتصف القرن التاسع عشر، فقد تصدّى لها زعيم آزجر «أخنوخن»، لتتراجع نحو (آهجّار)، حيث كان فرسان اللثام في انتظارها، لتلقى، بسيوفهم، القصاص المستحقّ، الذي اعتمدته الصحراء في حقّ نفسها تعويذة خلود.
والعطب كلّه من صنع سعلاة لئيمة هي الأيديولوجيا، التي سنّت ديناً لظاهرة جنونية كـ المسّ، لتوقظ في المخلوق البشري الشهوة لاغتنام المزيد، فلا تكتفي، ولكنها تأبى إلّا أن تغتنم الحقيقة برمّتها، بل ولا تهنأ بالاً ما لم تحتكر هذه الحقيقة احتكاراً، لتبلغ هذه النزعة الآثمة ذروة سلطانها مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما كانت أوروبا تغلي بهوَس القرن، وهو الرفض، لتغدو هذه النزعة تقليعة الزمان، ليعبّر عنها دستويفسكي في ذلك العمل الروائي، الملحميّ، المرجعيّ «الممسوسون»، الذي غدا إنجيل كل بهلوانٍ يراهن على اغتنام حقٍّ مزعوم، صار وجودياً، هو السلطة، ليستعير، بفضل هذه الروح العدمية، نموذجاً في الرؤية النبويّة، فلا يجد ما يتوّج به أمثولته الرائدة سوى ذلك الاستشهاد، الثريّ الدلالة، المستعار من إنجيل «لوقا»: «وكان هناك قطيع خنازير كثيرة ترعى في الجبل، فطلبوا إليه،{أي من المسيح} أن يأذن لهم بالدخول فيها، فأذن لهم. فخرجت الشياطين من الإنسان، ودخلت في الخنازير، فاندفع القطيع من على الجرف، إلى البحيرة، واختنق» إنجيل لوقا: 8 ـ 33).
إلى ملّة هذا الجيل، المسكون بالمسّ، تنتمي كل الأيديولوجيات، التي أنتجتها روح التجديف في حقّ القيم الإلهيّة، فلا تكتفي بأن تبيح كل الكبائر، باسم الثورة على الواقع، ولكنها تستبيح كل المقدّسات، في سبيل الهيمنة على الواقع، المنتدب كبديل للواقع السائد، لينتحر المفهوم في المنطق، فتغترب لُقية كالحرية عن حقيقتها، عندما تُغتصب في صيغة الديمقراطية، لتغدو الأخيرة هي معبود الأجيال، الذي تُسفح باسمه الدماء، وتُستباح القيم، لتتحوّل هذه البدعة قدس أقداس، في حال سمحت لنفسها أن تنتحل إسماً، كان بالأمس القريب تجديفاً مشئوماً، وهو: الديكتاتورية. فالديكتاتورية، في هذه الحال، تتحرّر من سوء السمعة، لتكتسب حصانة، تؤهّلها لأن تتبوّأ منزلة شرعيّة، عندما تتبنّاها ربيبة الأيديولوجيا: الديمقراطيّة!
ذلك أن المفاهيم، في ترسيمة المؤامرة الوجودية، أعرافٌ تُبيح التلاعب بالمنطق، تلبيةً لنداء بعبع الإثم، وهو: النفع! مما يعني أن الديكتاتورية، تتحرّر من ديكتاتوريتها ما أن تعتنقها الديمقراطية، لتتخذها شفيعاً لاحتكار السلطة، لنكتشف، بعد فوات الأوان، كم نحن بلهاء، عندما توهمنا أن الديمقراطية، وصيّة مستعارة من قاموس الحرية، وليست في حقيقتها سوى الديكتاتورية نفسها، مرتديةً قناع الديمقراطية، لتطيب لها ديمومة البقاء في جوف العرش: عرش منذور لممارسة ذلك المسّ، الوارد في إصحاح إنجيل «لوقا»، الذي لا يبطل فيه المفعول إلّا بتميمة إسمها: واقع الصحراء.
فالمسّ، بمفهوم اللاهوت، هو لمسة إبليس، ولمسة إبليس فرمان اغتراب، وقرون استشعار في تجربة كل مَن ابتلته الأقدار بالأيديولوجيا، التي تحبك بلايا عالمنا، لتكتم أنفاس أهل الحضر، وعلى كل مَن استجار بها، من أممٍ، لقّنتها التجربة الدرس، الذي كان له الفضل في استغناء إنسان الصحراء عن كل ما متّ بصلة لما يراه الإنسان الحضري غنيمةً، مادام استطاع، أن يستغني، بالزهد في حطام الفانية، عن كل ما متّ بصلة لجناب التّرف، بما في ذلك الدولة، التي لا تغدو معبوداً، بديلاً للمعبود، إلّا في عقليّة الإنسان الحضريّ الشقيّ بترفه، والدليل تهديه لنا الأمم التي كفرت بهذا الملاذ الزائف، كأمم الصحراء، فكافأتها العناية الإلهيّة بالخلود على خرائط الجغرافية، فتبخّرت الإمبراطوريات التي لا تغرب الشموس على أراضيها، في حين ورثتها الأمم التي اعتنقت الرحيل ديناً، كما أمّة الطوارق، لأنّها احتكمت إلى حكمة الانتماء إلى جنّة الأمومة في مرجعٍ كالهويّة، الهوية في بُعدها السلاليّ، أو العرقيّ؛ لأن الأنثى، في صفقة القران مع الرجل، هي الحُجّة في هذا الحقل، بوصفها الوعاء الحاوي لحقيقة الأجنّة، ولهذا قيل: «ما لا يؤنّث لا يعوّل عليه». وهي العروة الوثقى التي استجارت بها هاتان القبيلتان البدْئيّتان العابرتان، لتتوّج نزعة العبور، في سيرتهما، العامل الثاني في سرّ البقاء، وهو: الهجرة.
الهجرة هي الطلسم، الذي حقّق الحصانة من مفعول الروح العدميّة في الزمن، على المستوى الوجوديّ هذه المرّة، لتكتمل الآية السحرية، في حلفها مع الانتماء العرقيّ الأموميّ، وغياب هذين العنصرين هو ما خذل الأمم الأخرى التي تتباهى بالاختباء من بعبع الزمن وراء جدران الزمن، وتراهن على الباطل، المترجم في حرف الترف، الذي يستدرج إلى الاستقرار الخادع، المشتقّ في منطق اللغة، من كلمة «قرّ»، التي تدلّ، في لغة التكوين، على «الجمود»، (أي: الموت)، لتستصدر، ضمناً، شهادة الوفاة في حقّ الجنين في صيغته كحرف وجود!