في عصر زيت الكاز يطلب شاعر *** ثوباً وترفل بالحرير قـِحاب
نزار قباني
وذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
المتنبي
في الوقت الذي تحظى فيه الطبقات المتعلمة والمثقفة والعلمية في مختلف أنحاء العالم بالمكانة المعنوية اللائقة بدورها المحوري في صياغة الخصوصيات التاريخية والأدبية والروحية والسياسية، وتنعم بمستوى مادي يكفل استمرار عطائها ويزيد من وتيرة تفانيها في خدمة أوطانها، نجد أن نظيرتها في هذه البلاد، التي كانت تعرف بأرض المنارة والرباط، وبلاد المليون شاعر، لم تبلغ بعد تلك المرتبة المرتبطة بالرقي المدني والإشعاع الحضاري.
فلم تعد فرنسا، على سبيل المثال، تُسمِّي عاصمتَها باريس – إلا مجازًا – "مدينة الأنوار"، كما كان الحال في الماضي، لأن مدنًا أخرى حول العالم أصبحت أكثر إشعاعًا وأسرع تقدمًا وأكثر عطاءً وإثراءً. وبالمثل، فإن "شنقيط"، التي كان ينبغي أن تكون مصدر فخر ومنارة ثقافية، أصبح ذكرها محصورًا في "أروقة" النفوس القبلية و"كواليس" الطبقية المتجاوزة، وفي أيدي حماة المهرجانات الفلكلورية الضيقة الآفاق، ضعيفة الطموحات والمقاصد والرؤى، التي تعاني من ضعف المخرجات وتفتقر إلى عبق التاريخ المجيد. كل ذلك دون أن يكون له أثر كبير على وحدة المجتمع المتنوع ثقافيًا من جهة، أو على المسار الحضاري المتعثر من ناحية أخرى.
هذا الواقع يعكس خللاً عميقًا في أولويات معركة الرقي الفكري والتحضر في إطار المدنية الحديثة التي لا تفسح المجال إلا لمن يمتلكون وعيًا ناضجًا بحساسية المرحلة وخطورتها في خضم العولمة. هؤلاء، ينبغي أن يتحلوا بصدق العزيمة ووضوح الرؤية لتنفيذ خطط رصينة تهدف إلى دفع المجتمع نحو التقدم. إلا أن ما نراه في الوقت الحالي هو أن الشعراء المبدعين، والكتّاب اللامعين، والنقاد الحصيفين، والأكاديميين المرموقين – الذين يُفترض أن يكونوا في مقدمة هذه المعركة – أصبحوا مهمشين، في حين أن:
- قراصنة الشعر المبتذل،
- وسماسرة النثرية المأجورة،
- وجحافل الانتهازيين،
هم الذين يستفيدون من موارد الدولة ومقدراتها، دون أن يقيموا وزنًا للدين أو القيم.
ما يزيد هذا الوضع غرابة هو الرضا المشبوه الذي يبديه هؤلاء المثقفون تجاه الواقع المرير، حيث يظهرون غير مستائين وكأنهم استسلموا لهذا الوضع دون أي رغبة في تغييره. وكما قال المتنبي:
"وذو العقل يشقى في النعيم بعقله *** وأخو الجهالة في الشقاء ينعم"
فإن هؤلاء المثقفين يعيشون في حالة من البؤس رغم امتلاكهم للمعرفة والمواهب التي كان ينبغي أن تضعهم في مكانة مرموقة.
ومعلوم أن المثقفين في أي مجتمع يمثلون نواته وعقله المفكر، وهم المسؤولون عن التخطيط للمستقبل وخلق الوعي المجتمعي. ومع ذلك، في "المنكب البرزخي" و"بلاد التناقضات الكبرى"، يبدو أن هذه الطبقة فقدت تلك المسؤولية، مما أدى إلى تراجع خطير في البعد الحضاري والإنساني والتقدمي للبلاد.
في ظل هذا الواقع المتدهور، تآكلت معالم البلد نتيجة استنزاف الموارد وانتشار الفساد، حيث لم يعد البعض يحمل الوطن في "قلوبهم"، بل في "جيوبهم"، متجاهلين عواقب هذا الاستنزاف. ويبدو أن غياب الوازع الديني والوطني يدفعهم لاتباع مبدأين:
- "ليس لك إلا اللحظة التي أنت فيها"، و
"أنا ومن بعدي الطوفان".
يبقى السؤال الآن: هل ستستفيق النخبة المثقفة من غفلتها وتدرك خطورة الوضع قبل فوات الأوان؟ وهل ستتمكن من إعادة إحياء قيمها ومبادئها لتكون منارة تهدي الأمة نحو بر الأمان؟
إذا لم تتحرك سريعًا، فإن النتيجة الحتمية ستكون مرحلة جديدة من الانتكاس، وسيكون المثقفون أنفسهم أول من يكتوي بنارها، وأول ضحاياها، لأنهم ساهموا – بشكل أو بآخر – في صنع هذا الواقع المتردي.